لكلّ لحظة من الزمن تفاصيل صغيرة تتجسد فيها حكايا قصيدة رُويت يوماً من شاعر عظيم. فالشعر لا وطن له ولا مكان، وفي الصباح يكون اقتراع جرعة شعرية بمثابة أهمية كوب قهوة أو شاي. فما هذه اللحظات الآسرة التي تبقى في حياة المرء رغم رحيل الشاعر؟ وكيف نكون نحن “الكائنات” والشعراء هُم “بريدنا”؟ والسؤال الأكبر هو: هل يرحل الشاعر حقاً عندما يموت؟

قالت الكاتبة الإماراتية صالحة عبيد إن “الشاعر موجود دوماً ولا يموت، حتى إنه موجود أكثر من أي وقت”. وهذا أثناء حديثها عن الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج خلال مهرجان طيران الإمارات للآداب. فالشاعر موجود دوماً في التفاصيل التي يكتب عنها، ومن الصعب على المرء أن يشعر برحيله إذ يكتشف كل يوم أنه يظل بجانبه مع كل كلمة أو نص يقرأه.

وكانت صالحة عبيد من الكثيرين الذين شعروا بهذا الطابع الشعري الخلّاق المخلّد في أعماقهم. فقبل وفاة أنسي الحاج منذ 10 سنوات، كانت تحرص أيام السبت والأحد أن تتصفح جريدة الأخبار اللبنانية وقراءة والاستمتاع بنصوص أنسي الحاج. وكان بالنسبة لها بمثابة شاعر خارج كوكب الأرض الشامل لجميع الشعراء. وكانت شغوفة بالالتقاء به إذ قرأت قصائده الكافة وخططت لرؤيته في زيارة إلى لبنان.

الشاعر خلف غلال القصيدة

ومع ذلك، من يكون الشاعر حقاً خلف غلال القصيدة؟ هل هو نفسه الذي خلق طابعاً رومنسياً يضيء شمعة الأيام البليدة؟ هل هو الذي رسم شمس الظلام وخبئ في جذورها ذكريات وحكايات لا تُنسى؟ كانت الشاعرة ابنة أنسي الحاج، ندى الحاج، تروي قصة أبيها خلال مهرجان الآداب عندما وصفت شخصيته الانطوائية والخجولة والكتومة عن عواطفه على عكس شخصيته الجريئة والصادمة على الورق؛ “العقدة” التي عبّر عنها أنسي الحاج عبر مقال من مقالاته، إذ كان يزداد خجلاً أكثر فأكثر مع العمر. وكانت المرة الوحيدة التي تكلم فيها عن هذا الموضوع.

وهنا تكمن النظرة أن الشاعر كثيراً ما يكون إنساناً شديد التناقض والتعقيد، ولكنّه يحرص أن يتعامل مع اللغة كشيء قابل للتشكّل. قالت صالحة العبيد في اقتباس مُلهِم إننا “قد نكتشف كلمة من اللغة العربية ونستطيع إعطائها شكلاً ورائحةً وحكايةً كاملة”. وعند ذكر قصائد النثر كمثال، لا يأتي على البال قصائد كثيرة أخرى غير قصائد أنسي الحاج أو الشاعر اللبناني أدونيس.

ومن طرفي، فأستطيع التأكيد أن الأثر ليس فقط بالشعر بل بالأدب على وجه العموم. فجزء كبير من شغفي للأدب يكمن في قدرته الهائلة على تخليد كم هائل من المشاعر والحِكمة والذكرى الجميلة عبر مجرد كلمات ونصوص، حتى وإن لم يعجبني كتاب ما بأكمله؛ دائماً ما أحتفظ بكلمات برّاقة في قلبي، صنعت أياماً احتاجت للكثير من التقدم والعيش والمغامرة.

"جلسة روحك بريد الكائنات" في مهرجان الطيران الإمارات للآداب عن الشاعر الراحل أنسي الحاج.
جلسة “روحك بريد الكائنات” في مهرجان الطيران الإمارات للآداب مع ندى الحاج وصالحة عبيد. 5 فبراير 2024. (لارا صبري)

أنظر أيضاً: إبراهيم فرغلي: لماذا “الإنسان”؟